Friday, January 1, 2010

هاو.. هاو




هاو هاو



"كل عام و أنت طيب يا حامد افندي!.."
قالها المدير العام في ترحاب و هو يرحب بباش كاتب المصلحة و أردف قائلا:
"و ألف لا باس عليك يا راجل يا بركة.."
ابتسم حامد افندي و هو يقول بود:
"ممنون ليك يا سعادة البيه.. كان دور برد بسيط و الحمد لله.."
تساءل المدير قائلا:
"و يا هل تري رحت الوحدة الصحية تكشف ولا لأ؟.."
ضحك حامد افندي و هو يسعل قائلا:
"شوية برد بسيط.. ربنا ما يودينا عتبة الحكماء.."
نهض المدير و هو يقول:
"و الله و هتوحشنا يا حامد افندي.."
أجاب حامد افندي باقتضاب:
"ما تشوفش وحش يا سعادة البيه.."
ثم أسرع حامد افندي بالخروج حتى لا يضطر للاستطراد في هذه النقطة و ذهب إلى مكتبه مسرعاً و كان الموظفون و الساعي يلاحقونه بعبارات مثل:
"كدة هاتسيبنا يا بركة؟.."
"حتى لو هتلر مسك المصلحة.. لزماً نشوفك.."
"الأيام بتجري ولا المجري.."
"و ورق المعاش خلص خلاص.."
"هاتزورنا و لا مانتاش ناــــــــــــــــ
هاو هاو.."
انتبهت حواس حامد افندي عند الصوت الأخير..
كان الرجل أميناً دقيقاً..
يعمل بجد طوال أيام و سنوات..
كانت وظيفته باش كاتب المصلحة..
المصلحة التي تقع داخل احد أرياف مصر..
كان كل شئ جيداً في حياته الساكنة..
الا شئ واحد..
"هاو هاو!.."
الكلاب الضالة التي تمرح بسهولة داخل ارض المصلحة بمنتهى الحرية..
دون أي رقيب أو حسيب..
كان يهشها بعصاه..
هو أكثر موظف يكره هذه الكائنات..
النابحة..
"حامد أفندي.. حامد أفندي.. الكلبة ولدت!!.."
عاد الرجل بذكرياته إلى الصوت الصاخب للساعي بهتافه الباش بولادة الكلبة..
كان في أسابيعه الأولى في عمله..
منذ خمس و ثلاثين سنة..
ارتجف حامد اقندي على هذا الهتاف و أسرع بعصاته حيث الكلبة و الجراء ليهشهم بعيداً..
كانت الكلبة شجاعة فزمجرت..
تراجع..
حانقاً..
"توقيعك على المخالصة يا حامد أفندي.."
أفاق الرجل من ذكرياته ليطالع وجه  إسماعيل الحزين و يده الممدودة بمجموعة أوراق تناولها حامد أفندي في استسلام و يوقعها في دقة و يقول:
"عندك ورق تاني يا إسماعيل؟!.."
أجاب إسماعيل في حزن:
"بعون الله الساركي هيبعتوه من المديرية العمومية في البوسطة.."
اومأ حامد افندي برأسه متفهما و استطرد إسماعيل بقوله:
"هتوحشنا يا راجل يا طيب.."

قام حامد أفندي من مكتبه و هو يلملم بعض الأوراق و يغادر مكتبه للمرة الأخيرة و يجتر ذكرياته في المصلحة التي أفنى فيها شبابه..
كان الجميع يودعونه بحرارة و يتجاذبون معه أحاديث كثيرة و يتذكرون معه بغضه الشديد للكلاب التي تقطن ارض المصلحة و عصاته الشهيرة التي لم تكن تفيد كثيرا و دقته في وظيفته و أمانته مع
"هاو هاو!!.."
نبحت الكلاب فجأة وسط هذه الشاعر مما أزعج الرجل فانطلق كعادته بعصاته يهشهم حتى خرج من المصلحة وسط ضحكات الجميع..

"البنت اخبارها ايه؟!.."
تساءل حامد افندي و هو يضع قدميه وسط الماء و الملح و أتت زوجته من الداخل و معها المنشفة و تقول:
"قصدك شكرية؟"
تساءل في حدة:
"هو فيه غيرها يا زينب؟!.."
قالت زوجته و هي تتفهم مزاجه الحاد منذ إحالته على المعاش:
"الحمد لله.. الحرارة نزلت.."
قال الرجل بنبرة اعتذارية:
"لا مؤاخذة يا زينب.. اصلي متضايق شوية.."
تجاهلت زينب قوله بحنكة أنثوية و تساءلت:
"يا سي حامد انت بقالك اشي أسبوع و اكتر و الساركي ماوصلش من المديرية العمومية.."
تنهد الرجل و هو يقول في جذل خفي:
"من النجمة هاروح المصلحة بمشيئة الرحمن.."

استيقظ الرجل في السادسة و النصف صباحا و استعد للذهاب إلى المصلحة للاستفسار عن ساركي المعاش و شعر بارتياح و سعادة حتى انه تعمد أن يذهب و كأنه مازال موظفا ملتزما بالمواعيد الرسمية..

دخل المصلحة و صاحت الكلاب حوله بنباحها.. كانت كلاب بلدي ضالة تحيا في ارض المصلحة.. و كانت بحكم إقامتها تعرف الموظفين من الغرباء.. غضب الرجل قليلا ثم ذهب إلى زملائه لتحيتهم..
الصدمة ثقيلة ثقيلة..
"روح اسأل المدير.."
"اسماعيل.. انت مش فاكرني؟!.."
"حامد افندي.. انت لسه عايش؟!.."
"الساركي؟ .. ساركي ايه؟!.."
"البوسطة وصلت من زمان.."
"و لا حتى تلفون؟!.."
"شيعولي مرسال.."
"بلغوني!!.."
"الدنيا تلاهي يا راجل.."
"امسك الساركي.."
"وقعت بالاستلام.."
"مستني ليه تاني؟!.."
"انت بتبص لنا كده ليه؟!.."
"مالك يا حامد افندي؟!.."
"الف لا باس عليك.."
"على البيت طوالي علشان ترتاح.."
"خرج الرجل من المصلحة مصدوما.."
كانت خطواته بطيئة متثاقلة..
هاو.. هاو..
صاحت الكلاب حوله بنباحها..
خذلته يداه من الصدمة عن ان يرفع عصاته تجاهها..
اقتربت منه بحذر..
الكلاب..
تداعبه..
تودعه..
و صوت نبحها مختلط..
زمجرة.. نباح عال.. غمغمة..
اندهش حامد افندي و هو يحاول استيعاب الموقف..
تبسم الرجل وسط حزنه و توقف ناظرا الى الكلاب و يقول:
"أشكركم.."