Friday, February 17, 2012

المُشــير








كان أخيتوفل واحداً من أقرب الناس إلى الملك داود، وهو الرجل الذي يطلقون عليه "يهوذا الاسخريوطي العهد القديم"،... إذ كانت له نفس الشركة والمكانة التي كانت ليهوذا الاسخريوطي، من ابن داود، ابن الله،.. وكلاهما باع صديقه، ووصل إلى نفس المصير!!... كان الرجل من أبرع الحكماء وأعظمهم، ولم يوجد له نظير بين رجال داود في الفهم والحكمة،... ولكنه على قدر ما امتلأ من المعرفة والحكمة، فرغ من الحب والفضيلة، -في لغة أخرى- كان عقلاً دون قلب، ومن ثم حق أن يوصف أنه الميكافيلي الإسرائيلي، الذي لا مبدأ له، والذي ظهر قبل أن يعرف العالم الميكافيلي الحديث في العصور الأخيرة، الميكافيلي الذي وضع أبشع قاعدة خلقية: إن الغاية تبرر الواسطة!!..
كان أخيتوفل كتلة من الحكمة والذكاء، ولكنه وقد تخلى عن الحق والرحمة لم تعد له الحكمة النازلة من فوق، بل الحكمة الأرضية النفسانية الشيطانية، الممتلئة بالتحزب والغيرة والتشويش، وكل أمر رديء،... وأضحت مأساته مأساة العالم كله، المتقدم في المعرفة، والمتخلف في الأخلاق، والغارق في الدم والتعاسات والأحزان والآلام،.. لم يقتل داود أخيتوفل، ولم يشتر أحد الحبل ليهوذا سمعان الاسخريوطي،... ولكن كليهما مضى وخنق نفسه ومات،... وإذا كانوا في العادة يقولون إن ذكاء المرء محسوب عليه، وإذا كان الكتاب يقول إن أخيتوفل انطلق إلى بيته إلى مدينته وأوصى لبيته وخنق نفسه، ونحن لا نعلم ماذا أوصى لبيته، لكننا سنجتهد أن نفتح وصيته الرهيبة التي خلفها وراءه للأجيال وللتاريخ، ومن ثم يحق لنا أن نراه من النواحي التالية:
أخيتوفل الصديق القديم
أغلب الظن أننا لانستطيع أن نفهم أخيتوفل قبل أن نقرأ المزمور الخامس والخمسين، ومع أن داود تنبأ في هذا المزمور عن يهوذا سمعان الاستخريوطي، إلا أن عينه في الوقت نفسه كانت على أخيتوفل الجيلوني صديقه الخائن الذي تمرد عليه، وشارك أبشالوم في ثورته ضده، ولم يكن أخيتوفل إلا رمزاً لذلك الذي قبل يسوع المسيح، وهو يسمعه يقول: "يا صاحب لماذا جئت؟".. وسنعرف أخيتوفل من داود إذا عرفنا يهوذا سمعان الاسخريوطي من ابن داود، من يسوع المسيح، ومع أن الفارق بعيد ولا شك بين داود والمسيح، وما فعل داود مع أخيتوفل، وفعل يسوع المسيح مع يهوذا الاسخريوطي إلا أن كليهما كان الشخص الذي قيل فيه: "لأنه ليس عدو يعيرني فاحتمل ليس مبغضي تعظم علي فأختبيء منه، بل أنت إنسان عديلي ألفي وصديقي الذي معه كانت تحلو لنا العشرة إلى بيت الله كنا نذهب في الجمهور" فإذا أحسست معه حرارة الحب والود، في ذاك الذي رفعه داود إلى مستوى العديل الأليف الصديق، فإنك تقترب من ذاك الذي رفعه يسوع المسيح إلى المركز بين تلاميذه الاثنى عشر، وإذ تقرأ من خلال القول: "الذي معه كانت تحلو لنا العشرة" وهي تحمل رنين الماضي الجميل الحافل بأرق المشاعر وأجمل الذكريات، فإنك يمكن أن ترتفع إلى العتبات المقدسة، وأنت تذكر السنوات اثلاث التي قضاها الاسخريوطي مع يسوع المسيح،.. وإذا أردت أن تتغور في حنايا الماضي، فإنك لا يمكن أن تجد أفضل من اللحظات التي كان يذهب فيها داود وصاحبه، ويسوع المسيح وتلميذه، إلى بيت الله في وسط الجمهور المرنم المتعبد!!... فإذا أردت أن تتعرف أكثر على هذه الصداقة، فإنك ستجدها واضحة الملامح، من حيث كونها الصداقة النافعة، والصداقة الحلوة والصداقة الدينية،.. أما أنها كانت الصداقة النافعة، فهذا مما لا شك فيه، فداود لا يختار صديقاً أو المسيح لا يأخذ تلميذاً، إلا إذا كان هذا المختار يتميز بميزات ووزنات وهبات تؤهله لهذا الاختيار، ومع أننا سنترك الآن يهوذا الاسخريوطي كالتلميذ المؤتمن على أمانة الصندوق، والوحيد بين التلاميذ الذي أختير من اليهودية ولم يؤخذ من الجيل، فإنه مما لا شك فيه أن الذكاء الخارق لأخيتوفل كان يقف على رأس الأسباب التي جعلت داود يقربه إلى ذاته ودائرته، وأن هذا الذكاء كان لازماً جداً في حل الكثير من العوائص والمشكلات التي كانت تجابه داود والأمة بأكملها، ومن ثم كانت مشورة أخيتوفل على ما وصفت به كمن يسأل بكلام الله!!.. وكانت من أهم أسباب تعلق داود به،... على أنه واضح أيضاً أن الرجل لم يكن ذكياً مجرداً من الإحساس والعاطفة، بل كان متقد المشاعر، حلو الحديث، دافق العاطفة: "تحلو العشرة معه" أو في -لغة أخرى- أنه لم يكن قريباً إلى عقل داود فحسب، بل إلى قلبه أيضاً، ولعل داود عاش طوال حياته يذكره بالأسى والألم، كلما ذكر الأوقات الجميلة الحلوة التي امتدت في حياتهما سنوات متعددة طويلة،.. ولم تكن صداقة الرجل لداود بعيدة عن محراب الله،.. أو هي نوع من الصداقة الأدبية أو الاجتماعية التي تربط الناس بعضهم ببعض، بل هي أكثر من ذلك كثيراً، إذ كانت الصداقة التي عاشت كثيراً تحت محراب الله في بيته المقدس، وكان من الممكن لهذه الصداقة أن تستمر وتبقى، لو عاشت في ظلال الله،.. ولكن أخيتوفل، قبل أن يفقد صداقته لداود فقد الصلة والصداقة بالله، وتهاوت مشاعره الدينية الأولى، وأضحت مجرد ذكريات لماضي لم يعد، وتاريخ ولى وتباعد!!..
أخيتوفل الخائن المتمرد
ولعلنا هنا نلاحظ أكثر من أمر، فنحن أول كل شيء نصدم بالصداقة المتغيرة المتقلبة، وما أكثر ما نراها في اختبارات الناس، وحياة البشر، على اختلاف التاريخ والعصور والأجيال،.. فإذا كان السياسيون يؤكدون بأنه لا توجد بين الدول ما يمكن أن نطلق عليه الصداقة الدائمة أو العداوة الدائمة، فأعداء الأمس قد يكونون أصدقاء اليوم، والعكس صحيح إذ يتحول أوفى الأصدقاء، إلى أقسى الخصوم وأشر الأعداء،... فإن هذه القاعدة تكاد تكون مرادفة للطبيعة البشرية المتقلبة، وليست وقفاً على السياسة أو السياسيين،.. ومع أني لا أعلم مدى الصدق أو العمق، في القول الذي ألف الناس أن يقولوه، إنه ليست هناك صداقة قوية حارة عميقة إلا بعد عداوة، إلا أني أؤمن بتبادل المواقع بين الأصدقاء أو الأعداء على حد سواء، فما أكثر ما يقف الصديق موقف العدو، وما أكثر ما يتحول العدو إلى الصديق المخلص المحب الوفي... وأغلب الظن أن أخيتوفل في مطلع صداقته مع داود، لم يكن يتصور بتاتاً أنه سيأتي اليوم الذي سيتحول فيه عدواً، لا يخاصم داود فحسب، بل يطلب حياته أيضاً!!... وهل لنا هنا أن نتعلم الحكمة، فنعرف أنه يوجد صديق واحد لا يمكن أن يتغير أو يتبدل في حبه على الإطلاق،.. وهو أقرب إلينا من أقرب الأقربين، ومهما تكن العوامل التي تقربنا أو تفصلنا عن أقرب الناس إلينا، لكننا نستطيع -على أي حال- أن نقول مع داود: "إن أبي وأمي قد تركاني والرب يضمني"، أو مع بولس: "في احتياجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني لا يحسب عليهم ولكن الرب وقف معي وقواني لكي تتم بي الكرازة ويسمع جميع الأمم فأنقذت من فم الأسر"... وفي الوقت عينه علينا ألا نضع رجاءنا كثيراً في الصداقة البشرية، فهي -مهما امتدت أو قويت أو استعت- لا تأمن الثبات أو التغير أو الانقلاب!!...
وإذا كان السؤال الملح بعد ذلك: لماذا انقلب أخيتوفل على داود، ويهوذا الاسخريوطي على يسوع المسيح،... ومع أنه من الواجب أن نضع هنا مرة أخرى التحفظ ونحن نقارن بين الصداقتين، إذ أن يهوذا الاسخريوطي لم يكن له أدنى عذر في الانقلاب على المسيح أو الغدر به على النحو البشع، الذي جعله يبيعه بثلاثين من الفضة، أو يسلمه بالقبلة الغاشة المخادعة المشهورة، وإن كان من الواضح أنه سلمه بعد أن تبين أنه لم يعد هناك ثمة لقاء بين أطماعه وأحلامه في مركز أو جاه أو مال، وبين حياة المسيح وخدمته ورسالته في الأرض!!.. أما أخيتوفل فقد كان وضعه يختلف، إذ كان له من الأسباب ما يمكن أن يثير ضيقه وحفيظته من داود، وقد جاءت هذه الأسباب أثر سقوط داود في خطيته الكبرى مع بثشبع، وبثشبع بنت أليعام، وأليعام هو ابن أخيتوفل الجيلوني، وقد كانت هذه الخطية بمثابة الذبابة الميتة التي سقطت في طيب العطار، لتنته وتفسده، ومن تلك اللحظة تباعد الرجلان، وامتلأ قلب أخيتوفل بالكبرياء والحقد والضغينة، ولم يكن يرضيه البتة، إلا دم داود، سواء بسواء مثل دم أوريا الحثي الذي ذهب ضحية هذه الفعلة الرهيبة الشنعاء!!... ومن المعتقد أنه عاد إلى مدينته جيلوه، وبقى هناك في ثورة أبشالوم الذي استدعاه لمساندته ضد أبيه،... ومن الملاحظ أن ذكاء أخيتوفل الخارق، قد أعطاه نوعاً من الكبرياء لم يستطع معه أن يتسامح مع داود أو يغفر له، بل لعله وقد سمع عن غفران الله للرجل الذي كان يمكن أن تهلكه هذه الخطية، وتضيع حياته الأبدية، وفي الوقت عينه سمع عن عقاب الله الذي لابد أن يتم، بسبب العثرة التي أوجدتها هذه الخطية، كان يتصور أنه من الجائز أن يستخدمه الله لإتمام هذا العقاب، أو المشاركة فيه، عندما سمع عن الثورة التي قادها ابنه ضده!!..
لم يستطع أخيتوفل أن يغفر، ومع أنه كان من الممكن أن يتسع فكره وقلبه للملك التائب، الذي وإن كان قد سقط، إلا أنه حاول أن يصلح ما يمكنه إصلاحه من آثار هذا السقوط بضم بثشبع، والصلاة من أجل ثمرة السقوط، لعل الله يبقي على الولد، كما أنه عزى زوجته الضحية، وأنجب منها ابنه الآخر سليمان الذي أحبه الرب، وأحبه ناثان أيضاً، وتولى تربيته، وكان يمكن لأخيتوفل أن ينظر إلى بثشبع وابنها نظرة ناثان النبي، النظرة المليئة بالحب والحنان والعطف والترفق، وأن يكون لسليمان ولداود المشير والناصح والمعين والمساعد، لكن أخيتوفل، لم يكن هكذا، بل وعجز عن أن يكون هكذا، لأنه قد ضرب بأمرين ملآه إلى الحد الذي لا يمكن معه الصلح أو الغفران أو اللقاء!!... وهما: الكبرياء والحقد، وويل للإنسان الذي تسيطر عليه هاتان العاطفتان، وويل للناس منه إذ واتته الفرصة للتصرف في ملء غله وحقده وطغيانه وكبريائه!!..
ومن الثابت أن الجريمة الكبرى للرجل ليست مجرد التمرد على داود، أو أخذه بكل أسباب الحقد والضغينة والقسوة والشر بل إنه غيب الله تماماً عن المشهد، ولم تعد دوافعه إتمام المشيئة الإلهية حسبما تصورها أو تخيلها، بل كانت دوافعه أرخص وأخس وأحط من كل ذلك بما لا يقاس،.. وإذا كان يهوذا الاسخريوطي قد أتم إرادة الله في تسليم يسوع المسيح، لكن العبرة لم تكن في هذا التسليم الذي كان لابد أن يتم بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، إنما العبرة كل العبرة، كانت في الدوافع المنحطة الرخيصة التي سيطرت على الرجل عند التسليم!!.. وهكذا كان أخيتوفل الذي  قتله الحقد الأعمى، فهو لا يهدأ أو يستريح حتى يسفك دم داود، وهو يقترح لذلك أن ينتخب اثنى عشر ألف رجل، ليسعى وراءه وهو متعب مرتخي اليدين، فيهرب كل الشعب الذي معه، ويضربه هو وحده!!... أو قصاري الأمر أن دم داود هو الذي يشفي غليله، ويهديء ثائرته!!...
على أن الوجه القبيح للرجل، هو أنه من أقدم الناس الذين آمنوا بأن الغاية تبرر الواسطة، لقد أراد أن يفصل بين داود وابنه أبشالوم فصلاً أبدياً بالمنكر البشع، إذ قال لأبشالوم: "أدخل إلى سراري أبيك اللواتي تركهن لحفظ البيت فيسمع كل إسرائيل أنك قد صرت مكروهاً من أبيك فتشدد أيدي جميع الذين معك"... وفي الحقيقة أن هذا السبب المذكور يخفي وراءه السبب الأعمق، وهو الانتقام البشع من جنس ما فعل داود بحفيدته بثشبع،.. وإذا كان المبدأ الذي أطلقه ميكافيلي في قاموس السياسة الأوربية، طرح كل المباديء الأخلاقية، وذبحها في سبيل حصول الأمة على ما تريد، دون أدنى وازع من نوازع الضمير والإنسانية، فإن أخيتوفل الجيلوني كان من أقدم الذين آمنوا بهذا المبدأ -إن صح أنه مبدأ- وشجع على تطبيقه على النحو الفاضح الذي فعله أبشالوم فوق السطح في القصر الملكي،... رداً لفعل داود الذي أبصر من فوق السطح حفيدته بثشبع وهي عارية!!...
لم تكن رغبة أخيتوفل في الواقع إتمام المشيئة الإلهية، والتي لا يمكن أن يتممها الإنسان بهذا الأسلوب البشع الشرير الخاطيء، إذ أن الله لا يمكن أن يعالج الخطية بخطية مثلها، وقد حق لمتى هنري أن يقول: "إن هذه السياسة الملعونة، التي اتبعها أخيتوفل، لم تكن سياسة من يريد أن يتمم مشيئة الله، بل مشيئة الشيطان"... ومع ذلك فإن الله، وإن كان لا يرضى على القصد الشرير، إلا أنه يستطيع السيطرة عليه لإتمام مشيئته العظيمة العليا، أو كما قال يوسف لإخوته: "أنتم قصدتم لي شراً أما الله فقصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم ليحمي شعباً كثيراً".. وقد شارك أخيتوفل في تمام المشيئة الإلهية بمشورته الرهيبة، وإن كانت دوافعه الشريرة تتباعد عن الدافع الإلهي بعد السماء عن الأرض!!.. إن الحكمة في الواقع حيث قصدها الله، كعطية منه للإنسان، هي ذلك الإلهام الذي يمنحه للعقل البشري، فيما يستغلق عليه من أمور، أو يواجه من مشاكل، أو يقابل من صعوبات، ومثل هذه الحكم تختلف تماماً عن الحكمة البشرية، أو بالحري الشيطانية التي تنزع إلى الشر، وتبتكر كل الوسائل الشريرة الآثمة، التي تفتق عنها العقل البشري طوال أجيال التاريخ،.. فإذا قيل: وكيف يستطيع الإنسان إذاً التفرقة بين الحكمتين؟ كان الجواب فيما أورده الرسول يعقوب، إذ أن الحكمة الأرضية النفسانية الشيطانية هي حكمة أخيتوفل المقترنة بالغيرة والتحزب والتشويش والأمر الرديء،.. على العكس من الحكمة الإلهية: "وأما الحكمة التي من فوق فهي أولاً ظاهرة، ثم مسالمة مترفقة مذعنة، مملوءة رحمة وأثماراً صالحة عديمة الريب والرياء".. ومن الواضح أن خيانة أخيتوفل وغدره وتمرده وثورته ضد داود، لم تكن تعرف شيئاً من هذه الأخيرة على وجه الإطلاق!!..
وهل هناك من شك في أن أخيتوفل رمى بثقله الكامل إلى جانب الشر والفساد، وهو أول من يعلم أنه لا يمكن أن يضع بتاتاً داود وأبشالوم في كفتي ميزان، وأين الثري من الثريا، وأين البطل والحماقة والفساد والرذيلة والشر، من الخير والجود والإحسان والرحمة!!.. ولكنها الخطية التي أعمت أخيتوفل الجيلوني، أحكم المشيرين في عصره!!..
أخيتوفل والمصير التعس
وأي مصير تعس وصل إليه الرجل! لقد مضى وخنق نفسه، وفعل ذات الشيء الذي فعله يهوذا الاسخريوطي فيما بعد،... ولكني أرجو أن تتمهل لكي تتساءل متى خنق نفسه؟!!.. ولعلك تتصور أنه فعل ذلك بعد أن أوصى بيته، لكن الحقيقة أبعد وأعمق من ذلك كثيراً، لقد قتل الرجل نفسه قبل ذلك بفترة طويلة،.. لقد مات يوم لم يعد يعرف شيئاً في الأرض سوى المرارة والحقد والكراهية والانتقام، يوم انقطع عن بيت الله ليصل بينه وبين الشيطان بأقوى الأسباب، يوم افترسه الغيظ، إذ خرج من أورشليم إلى جيلوه ليجد هناك الروح النجس: "متى خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة وإذ لا يجد يقول أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه فيأتي ويجده مكنوساً مزيناً ثم يذهب ويأخذ سبعة أرواح أخر أشر منه فتدخل وتسكن هناك فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله".. وإذا كان الكتاب قد قال بعد ذلك عن يهوذا الاسخريوطي، أنه بعد اللقمة دخله الشيطان، وخرج من حضرة المسيح ليواجه ليله المحتوم، فإن أخيتوفل فعل الشيء نفسه عندما ودع داود إلى غير رجعة في طريقه إلى الليل الطويل العميق البعيد الذي وصل إليه!!.. وآه لك يا أخيتوفل! وآه لك أيها الرجل الذي استبدلت داود بأبشالوم كما استبدل الاسخريوطي المسيح برؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين! وآه لك أيها الرجل الذي انتهيت من تلك اللحظة قبل أن يدرك الناس أو تدرك أنت أن نهايتك قد جاءت وأنت لا تعلم!!... أجل متى يموت الرجل وأين ينتهي؟!!.. إنه لا يموت بمجرد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو يسكن قلبه عن النبض والحركة، فهذا وهم وخداع علمنا المسيح أن ننبذه ونرفضه، يوم دعا واحداً من الشباب أن يتبعه، واستأذن الشاب أن يمضي أولاً ويدفن أباه،.. وأكد له المسيح أنه ليس في حاجة إلى أن يفعل هذا، إذ أن الكثيرين هناك، وهم مستعدون ومؤهلون لمثل هذا العمل:"دع الموتى يدفنون موتاهم وأما أنت فاذهب وناد بملكوت الله"... إن الفرق في عرف المسيح بين الكثيرين ممن يحملون النعش إلى مثواه، وبين البيت المحمول، هو فرق موهوم متى كان الموتى الذين يدفنون الميت بعيدين عن الحياة التي يعطيها الله بلمسته الأبدية،.. وقد أكد هذه الحقيقة بصورة أخرى عكسية عندما قال أمام قبر لعازر "أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد"... مات أخيتوفل الجليوني كيهوذا الاسخريوطي قبل أن يخنق كل منهما نفسه ليخرج من العالم إلى الظلمة الأبدية!!...
مات أخيتوفل الجيلوني يوم أن تسمم نبعه، فلم يعد الرجل الذي ينطق بالحكمة، كمن يعطي الجواب للحائر والتعس والمنكوب بكلام الله، يوم كان النبع غزيراً مترعا فياضاً بالماء النقي الحلو الرقراق،.. آه لك أيها النبع، ما الذي غيرك لتتحول إلى حمأة تقذف بالقذر والكدر والطين؟!! أين الحكمة الجميلة والماء السلسبيل؟!! لقد ضاع كل هذا لأنك لم تعد الرجل الذي يذهب مع داود إلى بيت الله، بل أضحيت شريراً قاسياً عاتياً في الشر، فحق فيك ما قيل: "أما الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ وتقذف مياهه حمأة وطيناً".. وداعاً أيها النبع الرقراق يوم لم يعد للناس فيك إلا الماء المسموم العكر!!..
والسؤال بعد هذا كله: لماذا مضى أخيتوفل إلى جيلوه ليخنق نفسه؟!!.. هل خنق الرجل نفسه لأنه امتلأ بجنون الكبرياء عندما رفض أبشالوم أن ينصاع إلى حكمته مؤثراً عليها حكمة حوشاي الأركي؟ وهل يطيق أخيتوفل أن يسمع أبشالوم وكل رجال إسرائيل وهم قائلون: "إن مشورة حوشاي الأركي أحسن من مشورة أخيتوفل".. وهل بلغ الهوان به إلى أن يوجد في إسرائيل كلها من يمكن أن يستشار وهو موجود، ومن هو حوشاي الأركي هذا الذي يمكن أن يقف نداً له حكمته أو مشورته؟ فإذا كانت الأمة كلها تقدم عليه حوشاي، فإن الموت عنده أفضل بما لا يقاس من الحياة نفسها؟!!... على أن البعض يعتقد أن هناك سبباً آخر أضيف إلى هذا السبب، إذ أن الرجل لم يذهب إلى جيلوه، وهو مرجل متقد من الغيظ والغضب والكبرياء المهدورة الذليلة، بل أن الأمر أبعد وأعمق، لقد ذهب إلى هناك مأخوذاً بجنون الفشل واليأس والقنوط،.. لقد لفظت حكمته، وأدرك الرجل من اللحظة الأولى أن الثورة ستمني بكل تأكيد بالفشل والضياع والهزيمة، وأن حكمة حوشاي الأركي هي المنحدر أو الهوة التي تسقط فيها بدون قرار، وسينتهي كل شيء، على أسوأ ما يمكن أن تكون النهاية والمصير، فلماذا يبقى ليرى هذا كله؟!! ولماذا يبقى ليقتله داود أو واحد من رجاله على أبشع صورة ومثال؟!!.. وإذا لم يكن من الموت بد، فإن من حقه -كما تصور- أن يجعله بيده، لا بيد واحد من الأعداء أو الخصوم، الذين لا يمكن أن يأخذوه بالرفق والحنان والرحمة، لقد أصيب أخيتوفل الجيلوني، كما أصيب يهوذا الاسخريوطي، بأقسى نوع من الجنون، إذ أصيب باليأس المطبق الذي لا يترك للإنسان فرجة أو مخرجاً من أمل أو رجاء!!.. كانت خيانة أخيتوفل من أبشع الخيانات، وكانت مشورته المخيفة من أخبث وأشر وأحط المشورات، لكن البعض يعتقد أن داود كان على استعداد أن يقدر الجرح العميق الغائر في صدر الرجل، والذي شارك هو في صنعه، وكان على استعداد أن يتسامح مع الرجل أو يغفر له، لو أنه عاد تائباً نادماً مستخزياً عما فعل، ولكن أخيتوفل لم يفعل، لأنه جن بالكبرياء الذي يمنعه من الانحناء، وجن باليأس الذي أغلق في وجهه أي بصيص من رجاء أو أمل!!... وذهب الرجل كما ذهب يهوذا الاسخريوطي على بعد ألف عام آتية من الزمن!!...
لم يقتل أحد أخيتوفل الجيلوني، كما لم يقتل أحد يهوذا الاسخريوطي،.. لقد قتل كل منهما نفسه بالحبل الذي فتله بيديه، والذي وضعه في عنقه، لقد مات الرجلان لأن يد العدالة الإلهية امتدت إليهما، اليد القوية التي أطبقت على عنقيهما لتطرحهما في الظلمة الخارجية الأبدية، كما تطرح كل من لا يتعظ أو يتحكم لشتى الإنذارات التي لابد أن يرسلها الله، قبل أن يقضي قضاءه الإله المحتوم،...
مات أخيتوفل الجيلوني وذهب إلى مصيره التعس ليحق عليه ما قاله السيد المسيح عن الآخر: "كان خيراً لهذا الرجل لو لم يولد".. أجل وهذا حق، لأن الذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر، وإذا كانت العدالة الأرضية تضع أشد العقاب، على المجرم الذي يرتكب الجريمة مع سبق المعرفة والإصرار والترصد، وهي لا تستطيع أن تأخذه بما تأخذ به الغر الغرم الجهول، فبالأولى تكون عدالة السماء،.. مات أخيتوفل الجيلوني، وذهبت عنه حكمته ليموت موت الجاهل الأحمق، وليضحى الصورة الغربية المتكررة في كل الأجيال والعصور، للإنسان الذي يقتل نفسه بمدثرات "الحكمة" البشرية التي تتفنن كل يوم بالمخترعات العلمية والنفسية في تعذيبه وقتله!!...
مات أخيتوفل الجيلوني، دون أن يفلح في القضاء علي داود، لأن الملك القديم وفي نفسه من الحكمة الجهنمية الشريرة بالاتجاه إلى الله في الصلاة يوم قال: "حمق يا رب مشورة أخيتوفل"... وهل لنا شيء آخر في هذا العالم الحاضر الشرير أكثر من الصلاة، لنقي أنفسنا من مشورته الرهيبة الآثمة الشريرة،.. كان داود في اللحظة التي رفع فيها هذه الصلاة مسكيناً عاجزاً مشرداً طريداً،.. واستمع إلى صلاة الرجل البائس المسكين، وضرب على مشورة أخيتوفل بالضلال، فلم تفلح، ومات أخيتوفل، ولم يمت داود،... وعاش القائد وذهب المتمرد،... وضاعت الحكمة الآثمة القاسية الشريرة، ليبقى المسكين الذي أودع أمره بين يدي الله في ذلة وخضوع!!..
أي أخيتوفل! أي يهوذا الاسخريوطي القديم لا نملك أن نتركك دون أن نقف لنسكب دمعة حزينة على قبرك البائس، كم نسكب دموعنا الغزيرة علي الرجل الذي أطل على وجه المسيح، ومع ذلك قدر أن يبيعه ويخونه!!..