Wednesday, August 17, 2011

البلياتشو


البليـاتشـو

قصة قصيرة
تمهيد
هذه القصة مُستوحاة من لوحة شهيرة لبلياتشو ذي عينين حزينتين..
15 أغسطس 1942 م. السابعة صباحاً..
" غالب .. اكثم.. بهاء..اصحوا يا أولاد.. الفطار برة الخيمة.."
استيقظ الأشقاء الثلاثة علي محاولات والدتهم المستمرة لإيقاظهم..قام غالب في نشاط و هو يقول:
" صباح الخير.. و كل يوم و إحنا بخير.."
قالت والدته و هي تساعد اكثم في النهوض من علي الحصيرة:
" صباح الخير يا غالب يا ابني.. ياريتك تصحي اخوك الصغير علشان الحق اصحي باقي السيرك.."
ذهب غالب نحو بهاء في سرعة و في حركات شقية اخذ يتحايل حتى ينهض فقال بهاء في ضيق:
" أنت بتضايقني علشان أنت الكبير..كلها 4 سنين و يكون عندي 16 سنة.. زيك بالظبط.."
قال اكثم ضاحكاً:
" و كلها سنتين و أكون زيك يا غالب.."
قال غالب و هو يتعارك معهما في مرح:
" هو انتم فاكرين إني هافضل و أنا.."
و بتر غالب عبارته فجأة.. كان السبب قوياً..كان صوت طائرة..اندفع الثلاثة خارج الخيمة..كانت الطائرة واضحة و تطير علي ارتفاع منخفض..من تلك القرية الهادئة التي تتبع مدينة دمنهور عاصمة محافظة البحيرة..كان عليها رسم واضح لصليب معقوف..رمز الجيش الألماني في الحرب العالمية الثانية.
15 أغسطس 1942 م. الخامسة بعد الظهر..
كان المنظر جميلاً..كانت الشمس و هي تختفي خلف المزارع..و كأنها تودعها علي وعد بلقاء آخر..و كانت خيام السرك منتصبة و كأنها تتحدي خيام الحرب..كانوا عائلة كبيرة يعمل أفرادها في مجالات السيرك المختلفة..الحبال.. الأسلحة.. الساحر..الحيوانات..الحركات الصعبة..مسرح العرائس.. و ..
و البلياتشو..
و كان السيرك جوالاً..يقدم فقراته في بلدة .. ثم يرحل السيرك إلي بلدة أخري و هكذا.. هذه كانت حياتهم..و هنا ظهر الرجل.. الرجل العجوز ذو الشعر الكثيف الأبيض كالثلج الذي لم تسقط منه شعرة واحدة..ظهر بقامته المنحنية و كأنه اعتاد علي حمل وطأة الزمن.. و ثقل الأيام.. ظهر بابتسامته المعهودة..و التي انتقلت لكل من في السيرك..لأن هذا هو عمله..كان معه " يمني " الشقيقة الكبرى لغالب و اكثم و بهاء..و هنا اجتمع الأشقاء الأربعة حوله..قال اكثم في خوف:
" يا عم " باتشو " إحنا هنمشي من هنا امتي؟.. أنا خايف من الحرب.."
أجاب عم باتشو مبتسماً:
" هنمشي الليلة دي.. هنروح العَلمين.."
قال يمني:
" فين العَلمين دي؟.."
أجاب عم باتشو مبتسماً و هو ينظر إلي الغرب حيث اختفت الشمس:
" بعد الاسكندرية بكتير.."
سأل اكثم في تردد:
" و هنكون في اتجاه الحرب ولا لأ؟.."
قال بهاء في شجاعة:
" و ايه يعني الحرب؟.. ياريت الألمان يكسبوا علشان يحرروا مصر من الإنجليز.."
ابتسم عم باتشو و ظهرت في عينيه تلك النظرة الكسيرة بسبب الاحتلال الإنجليزي و الخطر الألماني وقال:
" مصر مش هيحررها الا ربنا و أولادها..و دلوقتي لازم الألمان ينهزموا.."
اندهش الأشقاء الأربعة..و استطرد عم باتشو قائلاً:
" علشان كدة السيرك رايح جهة الحرب..و هنقدم فقراتنا للجنود الألمان..و ماتخافوش.. إحنا معانا مار مينا..مار مينا شهيد مصري..و كان مُحارب و هو اللي هيدافع عن وطنه..ضد هتلر و ضد الألمان..و قائدهم روميل..
همس غالب و هو يرتجف:
" و يعني كلنا هنكون في خطر.."
ضحك عم باتشو ضحكته المعروفة حتى أن كل الأشقاء ضحكوا لضحكته.. و قال و عيناه تلمعان:
" ما تخافوش.. الخطر هيكون عليّ أنا بس.. و ربنا هينصرنا.. و ينصر بلدنا بشفاعة مار مينا.."
ثم قام و علي وجهه ابتسامة.. و في عينيه نظرة حزينة كعادته..
21 أكتوبر 1942 م. الواحدة ظهراً.. منطقة العَلمين..
كان السيرك يقدم فقراته للجنود الألمان..كان كل من في السيرك مثل المصريين في ذلك الوقت يتسابقون في إسعاد الألمان..لكي ينهوا الاحتلال الإنجليزي..ما عدا العم باتشو البلياتشو..الذي كان يقدم فقراته الضاحكة بمساعدة يمني لسبب آخر تماماً..
كان الجنود الألمان يتابعون فقرات السيرك و هم في حالة استرخاء أو غرور كامل و ثقة متناهية في النصر..و كان علي رأسهم الجنرال " شتوم " لان روميل كان في المانيا..
كانت فقرة البلياتشو هي أمتع فقرات السيرك.. كان عم باتشو يرتدي ملابس زاهية.. و يضع مكياجاً من ألوان صارخة.. و قطعة بلاستيكية فوق انفه..باختصار.. كان منظره فقط يُبعث علي الضحك..كانت قامته ممتدة عكس الواقع..نشيطاً.. و كانت أكثر فقراته امتاعاً و هو يقلد " ونستون تشرشل " رئيس الوزراء الإنجليزي الذي ابتدع علامة النصر..برفعه لاصبعي السبابة و الوسطي..V و كان الألمان يضحكون في هيستيرية..و همست يمني قائلة له:
" يا عم باتشو.. انت عرفت الحاجات دي كلها ازاي؟!!.. إحنا تقريباً منقطعين عن العالم.."
هنا ذهب عم باتشو لتحية الجنود.. و شعرت يمني انه يخاطب احد الجنود بالذات.. أو هكذا خُيل اليها.. و عندما أتي عم باتشو كان منظره غريباً.. شكله و وملابسه بلياتشو.. و لكن بدون ابتسامة.. بل بعينين حزينتين..
24 أكتوبر 1942 م. الخامسة و النصف صباحاً..
انتهي عم باتشو من تسبحة و صلاة باكر.. و بدأ يردد تمجيداً لمار مينا كان قد نظمه بنفسه..و أثناء ذلك دخل الأشقاء الأربعة خيمته فجأة و هم خائفون.. قالت يمني في فزع:
" الحرب ابتدت.. عايزين نمشي.."
كانت أصوات الطائرات و عتاد الحرب يزمجر منذ الليلة الماضية..اندفع عم باتشو خارج الخيمة..لتكتمل الصورة الأسطورية لرجل عجوز يتناقض شعر رأسه الجليدي مع منظر الصحراء النارية في خلفية من حرب مستعرة..
ارتجف الأشقاء من هذه الصورة..و اندفعوا داخل الخيمة..و امتدت قامة عم باتشو و هو يرتدي ثياب البلياتشو..و يضع مكياجاً صارخاً..و اندهش الأشقاء لذلك و لم يجرؤ احدهم أن يسأله لماذا تفعل هذا؟ .. و سأله غالب و هو يشعر انه يُحدّث عم باتشو آخر غير الذي يعرفه:
" أنا لاحظت يا عم باتشو انك كنت بتكلم واحد من الجنود الألمان و انت بتقلد تشرشل.. مش كدة؟.."
رمقه عم باتشو بنظرة صارمة..ثم خرج فجأة..و اندفع جرياً بنشاط يتناقض مع سنوات عمره.. اندفع وسط الجنود الألمان.. كان منظره عجيباً لافتاً للنظر..حتى أن كل موقع كان يدخله وسطهم كان يتسبب في تشتيت انتباههم مما ساعد علي سهولة اصطيادهم حتى علي مستوي الطائرات!!..لدرجة أن الأشقاء ارتجفوا رعباً و انبطح كل من في السيرك ارضاً و هم متيقنون من أن نهاية البلياتشو قد اقتربت..
اقتربت جداً..
7 نوفمبر 1942 م. التاسعة صباحاً..
" نشكرك يا سيد باتشو علي مساعدتك لقوات الحلفاء في معركة العَلمين"
نطق القائد العام الإنجليزي بهذه العبارة في صرامة القادة..و استطرد قائلاً:
" و الحقيقة أن إشارتك إلي صديقنا ميخائيل بأن قوات المحور ستبدأ تحركاتها بعد يومين.."
نظر ميخائيل الذي ينحدر من أب مصري و أم إنجليزية إلي عم باتشو نظرة إعجاب قائلاً:
" و كانت علامة النصر إشارة ذكية..لأنك فعلت ذلك يوم 21 أكتوبر و بدأت الحرب مساء 23 أكتوبر .. إلي جانب صداقتك المفتعلة للألمان و مخاطرتك في الحرب.... نحن نشكرك.."
قال عم باتشو في إنجليزية ركيكة :
" إن ملامحك يا ميخائيل و هيئتك هي التي جعلتك تندس وسط الألمان المغرورين .. و الحقيقة أن الفضل الأول في هذا النصر للشهيد مار مينا .."
انتبه مونتجمري للعبارة الأخيرة و قال:
" سأقص عليكم حلماً رأيته قبل الحرب.. لقد رأيت المعركة دائرة و في أثنائها رأيت رجلاً كلما كان يحرك يده ينحدر الجند الألمان.. و استمر هكذا حتى انهزموا تماماً .. سألته عن اسمه.. فقال { مينا}
قال عم باتشو في فخر:
" هذا القديس هو الذي فعل ذلك.."
و اطرق مونتجمري برأسه في خشوع ..و كذلك فعل ميخائيل.. و قال عم باتشو:
" يجب أن انصرف الآن.. السيرك كله سيترك المنطقة.."
ذهب عم باتشو خارجاً.. و قال مونتجمري لميخائيل في صرامة القادة:
" لقد انتهت الحرب يوم 4 نوفمبر .. اعتقد أن جنود المحور سيتركوا الحدود المصرية في غضون ثلاثة أو أربعة أيام من للآن..علينا أن نتابع الموقف.."
ثم استطرد و هو يتابع عم باتشو:
" لقد انتصرنا تماماً بفضل الله ..
و بفضل الشهيد مينا..
و بفضل هذا الرجل العم باتشو..
البلياتشو.."

كلمـة أخيـرة

كل ما ذُكر عن علاقة مار مينا بمعركة العَلمين ..
حلم مونتجمري..
مذكور في الجزء الثاني لكتاب حياة و معجزات
مار مينا العجائبي..
إصدار أبناء البابا كيرلس السادس..
الفصل الثالث..
القديس مينا يدافع عن وطنه..